الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً} جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها، ولما كان ذلك جارياً على ما فيه من استعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميماً للبيان، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام {وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 1 2] وقيل: الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين اشتروا} [البقرة: 6 1] الخ ولا بعد فيه؛ والحمل على الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان، والمثل بفتحتين كالمثل بكسر فسكون والمثيل في الأصل النظر والشبيه، والتفرقة لا أرتضيها، وكأنه مأخوذ من المثول وهو الانتصاب ومنه الحديث: «من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار» ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجز، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافاً لمن وهم، بل لا يشترط أن يكون مجازاً، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملاً في معناه الحقيقي ولكونه فريداً في بابه، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل، اللهم إلا أن يقال إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك: {وَلِلَّهِ المثل الاعلى} [النحل: 0 6] و{مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} [الرعد: 5 3] وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد ناراً الخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ، وزعم ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى: أينتهون ولن ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله: فصيروا مثل: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل: 5] زيادة في الجهل، والذي وضع موضع الذين إن كان ضمير {بِنُورِهِمْ} راجعاً إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشواً فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعم كمن وما، والذين ليس جمعاً له بل هو اسم وضع مزيداً فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأن استطال بالصلة فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون الذين ليس بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} [التوبة: 9 6] على وجه، وقول الشاعر: يا رب عيسى لا تبارك في أحد *** في قائم منهم ولا فيمن قعدإلا الذي قاموا بأطراف المسد وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في الذي من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به مستوقد مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه، واسم الجنس وإن كان لفظه مفرداً قد يعامل معاملة الجمع ك {عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} [الإنسان: 1 2] وقولهم: الدينار الصفر، والدرهم البيض، أو يقال: إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام، ويلاحظ في ضمير استوقد لفظ الموصوف، وفي ضمير {بِنُورِهِمْ} معناه، و( استوقدوا) بمعنى أوقدوا، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد بمعنى كأجاب واستجاب وبه قال الأخفش، وجعل الاستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي محوج إلى حذف، والمعنى حينئذٍ طلبوا ناراً واستدعوها فأوقدوها {فَلَمَّا أَضَاءتْ} لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد. والنار جوهر لطيف مضىء محرق، واشتقاقها من نار ينور نوراً إذا نفر لأن فيها على ما تشاهد حركة واضطراباً لطلب المركز، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس، نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة لما ثبت في «الكتب الحكمية» أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها، وأما اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس، والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها، والتعريف للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ، واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق، وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير؛ وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جداً، وقرأ ابن السميقع (كمثل الذين) على الجمع وهي قراءة مشكلة جداً، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن الذي لها لفظاً ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله: كذاك الذي يبغي على الناس ظالما *** تصبه على رغم عواقب ما صنع أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله: وبالبدو منا أسرة يحفظونها *** سراع إلى الداعي عظام كراكره أي كراكرهم، أو أن الفاعل في استوقد عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} [يوسف: 5 3] على وجه، والعائد حينئذٍ محذوف على خلاف القياس أي لهم أولاً: عائد في الجملة الأولى اكتفاءً بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء، وفي القلب من كل شيء. {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} (لما) حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه، أو ظرف بمعنى حين، أو إذ، والإضاءة جعل الشيء مضيئاً نيراً، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعدياً ولازماً، فعلى الأول: (ما) موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار، وعلى الثاني: فما كذلك وهي الفاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية، ولا يجب التصريح بفي حينئذٍ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفاً فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد وهي الجهات الست وهي مما ينصب على الظرفية قياساً مطرداً فكذا ما عبر به عنها، وأولى الوجوه أن تكون (أضاءت) متعدية و( ما) موصولة إذ لا حاجة حينئذٍ إلى الحمل على المعنى، ولا ارتكاب ما قل استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا، ولم يحفظ من كلام العرب جلست ما مجلساً حسناً ولا قمت ما يوم الجمعة. ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي؟ا وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوؤها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل، وهو مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر كقام زيد في الدار فإن زيداً والقيام فيها ذاتاً وتبعاً وإلى ذلك مال الزمخشري ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول، وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة ويثنى ويجمع فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثني على حوالي، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه بكسر اللام كما في «الصحاح». ولعل التثنية والجمع مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة ليسا حقيقين، وقيل: باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم أفندي في ترجمة «القاموس» بالرومية وفيه تأمل، وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو الحول بمعنى القوة، وقيل: أصله تغير الشيء وانفصاله و( ذهب) الخ جواب (لما) والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أنه يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو إن كان لي مال حججت والإذهاب متوقف على الإضاءة، والضمير في {بِنُورِهِمْ} للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقاً ولحاقاً، وقيل: الجملة متسأنفة جواباً عما بالهم شبهت حالهم بذلك، أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب (لما) محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين، ومثله {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} [يوسف: 5 1] وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير، ويجل عن مثل هذا الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير بواسطة، ولا يعترض على الحكيم بشيء، وحمل النار على نار لا يرضى الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد، فحينئذٍ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال، وعدي بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه. وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجىء في ظاهر قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22] والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل: ويظهر في البلاد ضياء نور *** وقال العباس رضي الله تعالى عنه: وأنت لما ظهرت أشرقت الأر *** ض وضاءت بنورك الأفق ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ} [المائدة: 5 1] والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 8 4] وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم: وكل آي أتى الرسل الكرام بها *** فإنما اتصلت من نوره بهم وكذا وجه وصف الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في «الفتوحات» فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى: {جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً} [يونس: 5] وعلى هذا يكون التعبير بـ {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} دون ذهب الله بضوئهم دفعاً لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً مع أن الغرض إزالة النور رأساً، وذكر بعضهم أن كلاً من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس، أو مجازاً كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه «الصبر ضياء» ومعلوم أنه كاسمه، والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء، ومنه " الصلاة نور " ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " " وأرحنا يا بلال " واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما ورد: «كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره» وقول الشاعر: بتنا وعمر الليل في غلوائه *** وله بنور البدر فرع أشمط والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع، والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع فالله نور السموات والأرض ولله المثل الأعلى وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضىء مما بين بطلانه في «الكتب الحكمية» وإن قال بكل بعض من الحكماء، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نوراً في قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب} [المائدة: 5 1] فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءاً لتتأتى هذه الإشارة لو قال هنا ذهب الله بضوئهم بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم، وقرأ ابن السميقع وابن أبي عبلة فلما أضاءت ثلاثياً وتخريجها يعلم مما تقدم، وقرأ اليماني أذهب الله نورهم وفيها تأييد لمذهب سيبويه. {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} عطف على قوله تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعاً لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها، وإيراد {لاَّ يُبْصِرُونَ} وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه، وليس المعنى عليه والترك في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوساً كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصداً واختياراً أو قهراً واضطراراً. ويفهم من «المصباح» أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف والكل هنا محتمل فعلى الأول: (هم) مفعوله الأول، (وفي ظلمات) مفعوله الثاني، و{لاَّ يُبْصِرُونَ} صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من (هم) ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالاً، و{لاَّ يُبْصِرُونَ} مفعولاً ثانياً لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكداً وإن جوزه بعضهم. وعلى الثاني: (هم) مفعوله، و{فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول: من المفعول والثاني: من الضمير فيه أو {فِى ظلمات} متعلق بـ {تركهم} و{ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} حال، والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئاً، فالتقابل بينهما وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] والمجعول لا يكون إلا موجوداً، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئاً ألبتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة؛ وعن الثاني بالمنع أيضاً فإن الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل بين النور والظلمة تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة، وإن كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة كما قيل رب واحد يعدل ألفاً أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار كذا قالوا. ومن اللطائف أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفرداً، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضاً كثيراً ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضاً معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} [الحشر: 4 1] ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين وهي كقلب رجل واحد، وأيضاً النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى: {الله نُورُ السموات والارض} [النور: 5 3] وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضاً الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك، وفي «مثلثات»ابن السيد الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم أي أول شخص يسد بصري وزرته والليل ظلم أي مانع من الزيارة فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية، فباعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصاراً للفظ واكتفاءً بما دل عليه المعنى، والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء، و{لاَّ يُبْصِرُونَ} منزل منزلة اللازم لطرح المفعول نسياً منسياً، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم، وقرأ الجمهور: {فِى ظلمات} بضم اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها، وقوم بفتحها، والكل جمع ظلمة. وزعم قوم أن (ظلمات) بالفتح جمع ظلم (جمع ظلمة) فهي جمع الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفاً مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه، وقرأ اليماني في (ظلمة)، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم {اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات، والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير عنه أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، ويحتمل التشبيه وجوهاً أخر. ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصاً من الفضيحة يوم تبلى السرائر، وقال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور بعد الكور.
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا كأحمر وحمراء أم انفردا لمانع في الخلقة كغرل ورتق فإن كان الوصف مشتركاً ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء كرجل أليّ، وامرأة عجزاء فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشاً، وأصله من الصلابة أو السد، ومنه قولهم قناة صماء وصممت القارورة. والبكم الخرس وزناً ومعنى وهو داء في اللسان يمنع من الكلام وقيل: الأبكم هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئاً ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيراً، وقيل: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازاً عند بعض وحقيقة عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله: أعمى إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر وأصم عما كان بينهما أذني وما في سمعها وقر *** وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكماً، وذكرهما قصداً حكماً أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثاً وهو أنه لا نزاع أن التقدير: هم صم الخ لكن ليس المستعار له حينئذٍ مذكوراً لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة، أو يقال ولعله أولى إن هم المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلاً فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صم على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله: صم الخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جداً، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجته إذ قد علم من قوله سبحانه: {لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 2 1] و{لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 7 1] أنهم صم عمي، ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم كالبكم ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يرجعون وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقياً يستلزم البكم وأخر العمى لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط حل بين العصا ولحائها ولو قدم لأوهم تعلقه بـ {لاَّ يُبْصِرُونَ} أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولاً دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر. ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 2 14] وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذٍ إلى التجوز ويكفي فيه الفرض وإن امتنع عادة كما في قوله: أعلام ياقوت نشر *** ن على رماح من زبرجد فيفرض هنا حصول الصمم والبكم والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة، وقيل: لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلاً عن ذلك، ويؤيد كونها تتمته قراءة ابن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم صماً وبكماً وعمياً بالنصب فإن الأوصاف حينئذٍ تحتمل أن تكون مفعولاً ثانياً لترك و{في ظلمات} [البقرة: 7 1] متعلقاً به أو في موضع الحال و{لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] حالاً أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعدياً لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني، والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير {لاَّ يُبْصِرُونَ} جهل بالحال، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذا ذاك إنما يحسن حيث يذكر الاسم السابق، وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 7 9] فنسأل الله تعالى العفو والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله، ومثله بل أدهى وأمرّ القول بأن جملة {لاَ يَرْجِعُونَ} كذلك ومتعلق لا يرجعون محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق. الوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من {أُولَئِكَ الذين اشتروا} [البقرة: 61] الخ والأخير على تقدير أن يكون من {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] الخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤا منه، والأعمى لا ينظر طريقاً وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتاً من صوب مرجعه فيهتدي به والفاء للدلالة على أن اتصافهم بماتقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا. ومن البطون: صم آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة بكم عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجباً عمي عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه. وقال سيدي الجنيد قدس سره: صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء} شروع في تمثيل حالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفيؤا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الإطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالاً بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يوفى فيه حق كل من مقامي الإطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز؟ ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على {الذى استوقد نَاراً} [البقرة: 7 1] ويكون النظم كمثل ذوي صيب فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملائمة للمعطوف عليه والمشبه. و( أو) عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم، وفي الإنشاء الإباحة والتخيير كذلك، وحينئذٍ لا يلزم الاشتراك ولا الحقيقة والمجاز، وبعضهم يقول: إنها باعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك، وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما فيما نحن فيه على رأي إذ المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعاً وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول، وزعم بعضهم أن {أَوْ} هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد، وقيل: بمعنى بل، وقيل: للإبهام، والكل ليس بشيء، نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد؛ ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعياً أن الإباحة وكذا التخيير لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه انتهى. ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع عليه الخواص، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود (أو) للإباحة في التشبيه نحو {فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 4 7] والتقدير نحو {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} [النجم: 9] والصيب في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، ويطلق على السحاب أيضاً كما في قوله: حتى عفاها صيب ودقه *** داني النواحي مسبل هاطل ووزنه فيعل بكسر العين عند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل بكسر القاف علم لامرأة، والبغداديون يفتحون العين وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه قول الكوفيين: إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل هو اسم جنس أو صفة بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني، وقرىء (أو كصائب) وصيب أبلغ منه، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم، وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة وقد تذكر كما في قوله: فلو رفع السماء إليه قوما *** لحقنا بالسماء مع السحاب وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سموات وأسمية وسمائيّ، والكل كما في «البحر» شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا يجمع، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياساً، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال. والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضاً للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ *الحميم} [الحج: 9 1] وكثيراً ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلساناً لذلك، والعيان الوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. و{مِنْ} لابتداء الغاية، وقيل: يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء، وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل: إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل وهو من أبخرة الجهل إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه الجهة وهو غير مناف لما ذكر، كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا وهم فوق الجبال الشامخة سحاباً يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحاباً فيمطر، فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب، ثم حمل الصيب هنا على السحاب وإن كان محتملاً غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه. {فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أي معه ذلك كما في قوله تعالى: {ادخلوا فِى أُمَمٍ} [الأعراف: 8 3] وإذا حملت {فِى} على الظرفية كما هو الشائع في كلام المفسرين احتيج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث ظلمة تكاثفه بتتابعه، وظلمة غمامه من ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} [البقرة: 0 2] وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه، وقيل: فيه وهو كما قال الشهاب وهم نشأ من عدم التدبر، وإن كان المراد بالصيب السحاب فأمر الظرفية أظهر، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء، ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في «لسان العرب»، وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل، وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر، والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهراً على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه، وكل من الرعد والبرق نوع واحد. وذكر الشهاب مدعياً أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد كما ورد في الحديث وجرت به العادة يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقاً فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} [البقرة: 0 2] فافرادهما متعين هنا وعندي وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن لما تقدم لم يجمع البرق إذ ليس هو البعيد عنه كما يرشدك إليه {كُلمَا أَضَاء لَهُم} [البقرة: 20] والرعد مصاحب له فانعكست أشعته عليه. أو ما ترى الجلد الحقير مقبلا *** بالثغر لما صار جار المصحف وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الابتدائية والظرف خبره وجعل الظرف حالاً من النكرة المخصصة وظلمات فاعله لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى. وللناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول: صوت زجر الملك الموكل بالسحاب، والثاني: لمعان مخاريقه التي هي من نار. والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقى على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل منه لشدة حركته ومحاكته نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت، وربما كان البرق سبباً للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفىء في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الأبصار لا يحتاج إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زماناً كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسري به ليلاً بلا رعد ولا برق على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على الإطلاق صلى الله عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق بما يزيل الغين عن العين ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله عليه وسلم. فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضاتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها رباً هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه الأفعال من الأرباب وإلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم بقوله: " وإن لكل شيء ملكاً " حتى قال: " إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك " وقال: " أتاني ملك الجبال وملك البحار " وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في «تفسيره الفاتحة» أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال: أراد صلى الله عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب في بيان الرعد هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضاً الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكة فظهرت كما ترى، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير مما ورد من هذا القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحداً وفق فوفق وتحقق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل. {يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى *ءاذَانِهِم مّنَ الصواعق حَذَرَ الموت} الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيراً ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]. والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال: {يَجْعَلُونَ} الخ، وجوزوا وجوهاً أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي {يَكَادُ} [البقرة: 0 2] كونها صفة صيب بتأويل نحو لا يطيقونه أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكرها والتأنيث أجود. وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه. أحدها: نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل وثانيها: من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبح كانت ولا يسلكون المسلك المعهود وثالثها: في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل، فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على الأخير ظناً منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلاً لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة من أن الدخول والمجيء والمسح في بعض البلد، والليلة، والمنديل ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر. و{مِنْ} تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة بـ {يَجْعَلُونَ} وتعلقها بالموت بعيد أي يجعلون من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر كراوية أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كحقيقة وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجرى أو حديدي، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعاً، وقرأ الحسن (من الصواقع) وهي لغة بني تميم كما في قوله: ألم تر أن المجرمين أصابهم *** صواقع لا بل هن فوق الصواقع وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقاً للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف. و{حَذَرَ الموت} نصب على العلة لـ {يَجْعَلُونَ} وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولاً له كان هناك نوعان منصوب ومجرور، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافاً لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه، وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلاً كما في قوله: وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً وجعله مفعولاً مطلقاً لمحذوف أي يحذرون حذر الموت بعيد. وقرأ قتادة والضحاك وابن أبي ليلى (حذار) وهو كحذر شدة الخوف. والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 8 2] مجاز ولا يرد قوله تعالى: {خَلَقَ الموت} [الملك: 2] إذ لخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى، وقيل: المراد بخلق الموت إحداث أسبابه، وقيل: إنه العدم مطلقاً وإن لم يكن مخلوقاً إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك، وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضداً للحياة، ولهذا يظهر كما في الحديث: «يوم تتجسد المعاني كما قال أهل الله تعالى بصورة كبش أملح» ويصير عدماً محضاً إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها. {والله مُحِيطٌ بالكافرين} أي: لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فإحاطته تعالى بهم مجاز تشبيهاً لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلاً بإحاطة المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى وله المثل الأعلى معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم. وجوز أبو علي في {مُحِيطٌ} أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى: {وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 1 8] أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 8 2] وكل هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام من ورائه محيط والواو اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل بما تفيده من المبالغة لأن الكافرين وضع موضع الضمير وعبر به إشعاراً باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 7 11] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الاهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئاً وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد (بالكافرين) المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لإظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم} استئناف آخر بياني كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال: {يَكَادُ} الخ، وفي «البحر» يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم ويكاد مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، واللام في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم نكرة، وقيل: إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى. وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الاحراق إلى النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريباً. والشائع في خبر كاد أن يكون فعلاً مضارعاً غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن بأن فلمنافاتها لما قصدوا ونحو وأبت إلى فهم وما كدت آيباً، وكان الفقر أن يكون كفراً، وقد كاد من طول البلى أن يمحصا قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب {يَخْطَفُ} بكسر الطاء والفتح أفصح. وعن ابن مسعود (يختطف) وعن الحسن (يخطف) بفتح الياء والخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء. وعن عاصم وقتادة والحسن أيضاً (يخطف) بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وعن الحسن أيضاً والأعمش (يخطق) بكسر الثلاثة والتشديد. وعن زيد (يخطف) بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية، وكسر الطاء في الماضي لغة قريش، وهي اللغة الجيدة. {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان، فسئل وقيل: ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص على المشي كلما أضاء لهم اغتنموه ومشوا وإذا أظلم عليهم توقفوا مترصدين. و{كُلَّمَا} في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها (ما) هو جواب معنى. و( ما) حرف مصدري أو اسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطاً لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموماً بدلياً ولهذا أفادت (كلما) التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين واستفادة التكرار من (إذا) وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح، ومن ذلك قوله: إذا وجدت أوار الحب من كبدي *** أقبلت نحو سقاء القوم أبترد وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في (كلما) إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول، وقد استعلمت هنا في لازم معناها كناية أو مجازاً وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه ولذا قال مع الإضاءة (كلما) ومع الاظلام (إذا) وقول أبي حيان: إن التكرار متى فهم من (كلما) هنا لزم منه التكرار في (إذا) إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والاظلام ومتى وجد (ذا) فقد ذا فلزم من تكرار وجود (ذا) تكرار عدم ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي والمجازي. وأضاء إما متعد كما في قوله: أعد نظراً يا عبد قيس لعلما *** أضاءت لك النار الحمار المقيدا والمفعول محذوف أي: كلما أضاء لهم ممشى مشوا فيه وسلكوه، وإما لازم ويقدر حينئذ مضافان أي كلما لمع لهم مشوا في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذا ليس المشيء في البرق بل في محله وموضع إشراق ضوئه وكون (في) للتعليل والمعنى مشوا لأجل الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية، ويؤيد اللزوم قراءة ابن أبي عبلة (ضاء) ثلاثياً، وفي مصحف ابن مسعود بدل (مشوا فيه) (مضوا فيه)، وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم يأت سبحانه بما يدل على السرعة، ولما حذف مفعول أضاء وكانت النكرة أصلاً أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء ويمشون كل ممشى، ومعنى {أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} اختفى عنهم، والمشهور استعمال أظلم لازما، وذكر الأزهري وناهيك به في «التهذيب» أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازماً ومتعدياً، وعلى احتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك (أظلم) بالبناء للمفعول مع اتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفاً أي إذا أظلم البرق بسبب خفائه معاينة الطريق قاموا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به على الكساد ومنه قامت السوق، وفي ضده يقال: مشت الحال {وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} عطف على مجموع الجمل الاستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن ذلك إذا اقتضاه المقام كما في {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى موسى} [طه: 7 1] الآية وكونها اعتراضية أو حالية من ضمير {قَامُواْ} بتقدير المبتدأ أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل اللفظية، والمقدرة فضول عند ذوي الفضل، والقول بأنه أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف الرعد ووميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به، ومفعول شاء هنا محذوف وكثيراً ما يحذف مفعولها إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغرباً، والمعنى ولو أراد الله إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب، ولتقدم ما يدل على التقييد من {يَجْعَلُونَ} [البقرة: 9 1] و{يَكَادُ} قوى دلالة السياق عليه وأخرجه من الغرابة، ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلاً، ويكون المعنى لو أراد الله إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه، والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته وإن استعمل عرفاً في موضع الإرادة، وقرأ ابن أبي عبلة (لأذهب الله بأسماعهم) وهي محمولة على زيادة الباء لتأكيد التعدية أو على أن (أذهب) لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 0 2] {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] إذ الجمع بين أداتي تعدية لا يجوز، وبعضهم يقدر له مفعولا أي لأذهبهم فيهون الأمر وكلمة (لو) لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضة الشرط دلالتها على انتفائه قطعاً والمنازع فيه مكابر، وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل، والحق أنه إن كان ما بينهما من الدوران قد بني الحكم على اعتباره فهي دالة عليه بواسطة مدلولها ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول. أما في الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى: شأنه {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ} [النحل: 9] وقولك لوجئتني لأكرمتك فظاهر، ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين، وهو الاستعمال الشائع في (لو) ولذا قيل: إنها لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهراً أو مسلماً على انتفاء الأول لكونه بعكسه كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] و{لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] واللزوم في الأول: حقيقي وفي الثاني: ادعائي، وكذا انتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول. ومن لم يتنبه زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني. وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك: لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشىء من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفائه هذا إذا بنى الحكم على اعتبار الدوران وإن بنى على عدمه فإما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو لا، فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين الانتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفاً عنه فكأنه قيل: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلاً. ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة الضوء القمري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة كحديث " لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة " فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط أعني كونها ابنة الأخ غير مناف لانتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له، ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا، وهذا وإن لم يعتبر تحقق مدار آخر بل بني الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلاً، ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالأولى كما في قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ} [الإسرار: 100] فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذاناً بأنه في نفسه بحيث يجب ثبوته مع فرض انتفاء سببه أو تحقق سبب انتفائه فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة (لو) الوصلية «ونعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة، وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل، والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى بازالة قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاماً. وقيل: كلمة (لو) فيها لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر بمنزلة ان، ذكر جميع ذلك مولانا مفتى الديار الرومية وأظنه قد أصاب الغرض إلا أن كلام مولانا الساليكوتي يشعر باختيار أن (لو) موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على انتفاء الأول أو الثاني أو على استمرار الجزاء بل جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرآن كيلا يلزم القول بالاستراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة، وبه قال بعضهم، وما ذهب إليه ابن الحاجب من أنها للدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازماً لا يستلزم الإرادة في جميع الموارد فإن الدلالة غير الإرادة. وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فرضاً مع القطع بانتفائه فيلزم لأجل انتفائه انتفاء ما علق به فيفيد أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول فيه مع توقفه على كون انتفاء الأول مأخوذاً في مدخولها، وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من التعليق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقي على حاله لارتباط وجوده بأمر معدوم، وأما أن انتفاءه سبب لانتفائه في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسبباً مضافاً للجزاء، نعم أن هذا مقتضى الشرط الاصطلاحي، وما استدل به العلامة التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي: ولو طار ذو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر أن استثناء المقدم لا ينتج، ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا تكون مستعملة للاستدلال بانتفاء الأول على انتفاء الثاني ولا يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة إبداء المانع مع قيام المقتضي كيف ولو كان معناها إفادة سببية الانتفاء للانتفاء كان الاستثناء تأكيداً وإعادة بخلاف ما إذا كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيساً، وهذا محصل ما قالوه رداً وقبولاً. وزبدة ما ذكروه إجمالاً وتفصيلاً. ومعظم مفتى أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية، ولا أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فاختر منها ما تريد. {إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ} كالتعليل للشرطية والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن القادر على الكل قادر على البعض والشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه، وهو شامل للمعدوم والموجود الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته، ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة، ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} [البقرة: 282] بقرينة إحاطَه العلم الإلهي بالواجب والممكن المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما، ويطلق ويراد به الممكن مطلقاً كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكن، وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود في الذهن كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الكهف: 23، 24] بقرينة كونه متصوراً مشيئاً فعله غداً، وقد يطلق ويراد به الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 0 4] بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم، وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] أي موجوداً خارجياً لامتناع أن يراد نفي كونه شيئاً بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن كل مخلوق فهو في الأزل شيء أي معدوم ثابت في نفس الأمر وإطلاق الشيء عليه قد قرر، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل عنه إلا لصارف ولا صارف. وشيوع استعماله في الموجود لا ينتهض صارفاً إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاصه به لغة، وما ذكره مولانا البيضاوي من اختصاصه بالموجود لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة؛ وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده الخ ففيه مع ما فيه أنه يلزمه في قوله تعالى: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} [البقرة: 2 28] استعمال المشترك في معنييه لأنه إذا كان بمعنى الشائي لا يشمل نحو الجمادات عنده، وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه، وفي استعمال المشترك في معنييه خلاف ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى. وأما ما ذكر في «شرحي المواقف والمقاصد» فجعجعة ولا أرى طحناً، وقعقعة ولا أرى سلاحاً تقنا، وقد كفانا مؤنة الإطالة في رده مولانا الكوراني قدس سره، والنزاع في هذا وإن كان لفظياً والبحث فيه من وطيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام. والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن أي ما يصدق عليه هذا المفهوم يتصور ويراد بعضه دون بعض، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن، وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى اعتبارين أحدهما: أنه ليس غيراً والثاني: أنه ليس عيناً، ولا يقال بالاعتبار الأول العلم تابع للمعلوم لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو اعتباراً، ولا تمايز عند عدم المغايرة، ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية، والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شؤونه ونسبه واعتباراته. ومن هنا قالوا: علمه تعالى بالأشياء أزلاً عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا علم الذات بجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه، وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء، ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزلياً لم تكن أعداماً صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفاً إذ لا تمايز، فإذا لها تحقق بوجه ما، فهي أزلية بأزلية العلم، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت، فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثراً للجعل وإلا لدار، وإنما هي مجعولة في وجودها، لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق به القدرة، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجوداً للممكنات ولا قادراً عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما بانضمامه إلى الماهيات الممكنة يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود، أما أولاً: فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجوداً بأمر ينضم إليه وهو الوجود، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائداً على ذاته. وأما ثانياً: فلأنه لو لم يكن موجوداً لم يوجد شيء أصلاً لأن الماهية الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوماً كان مثلها محتاجاً لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوماً ليس فيه بعد العدم إلا افتقاره إلى الوجود، وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه، فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيداً لترتب الآثار لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجوداً بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى إلى وجود موجود بنفسه، والأول: باطل، والثاني: قاض بالمطلوب. نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا سلب، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر، وإذا تبين أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية هو بعينه ما صدق عليه وجوده، وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعاً لاستحالة خلوها عن النقيضين فيه، غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من حيث اعتبارنا، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالماً عن المحذور فإذاً ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضاً إذ ليس التعين أمراً وجودياً مغايراً بالذات للشخص منضماً للماهية في الخارج ممتازاً عنهما فيه مركباً منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لاتحادهما فيه، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيآت يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصاً، وإيجاد الشخص من الماهية على الوجه المذكور عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجوداً متمايزان في الذهن فقط، وهذا تحقيق قولهم: المجعول هو الوجود الخاص، ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له وهو المنفي لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه، وإلا لكان المحال ممكناً واللازم باطل، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصحح لعروض إلامكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه، هذا والبحث طويل والمطلب جليل. وقد أشبعنا الكلام عليه «الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية» على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير، وحيث كان الشيء عاماً لغة واصطلاحاً عند أهل الله تعالى، وإن ذهب إليه المعتزلة أيضاً فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن. والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية، ولعل من اختار ذلك اختاره تقليلاً للصفات الذاتية، أو نفياً لها والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور، وعند الحكماء العناية الأزلية ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافاً لمن وهم فيه والقدير هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، وقلما يوصف به غيره تعالى، والمقتدر إن استعمل فيه تعالى فمعناه القدير أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين، وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى، ومعنى كونه مقدوراً أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان لازم له حال البقاء وأما من قال إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا: إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الاستغناء عن القادر سبحانه بحال، وهذا مما ذهب إليه الأشعري ولما فيه من مكابرة الحس ظاهراً أنكره أهل الظاهر، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود وناهيك بهم حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا: إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضاً والناس في لبس من خلق جديد، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، وقيل: شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعاً في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضراً، ونفاقهم حذراً عن النكاية بجعل الأصابع في الآذان ممادها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئاً وتحيرهم لشدة ما عنى وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فخطوا يسيراً ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم، وقيل: جعل الإسلام الذي هو سبب المنافع في الدارين كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا متحيرين، وقيل غير ذلك، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك. ومن البطون تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء} الخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضاً عاجلاً {مَّشَوْاْ فِيهِ} وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات، وقال الحسين: إذا أضاء لهم مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وإذا أظلم عليهم قاموا متحيرين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} {ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين، وقال في الطائفة الأولى: {الذين يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] وفي الثانية: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] وفي الثالثة: {يخادعون الله} [البقرة: 9] وشرح ما ترجع إليه أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى: {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] وفي الثانية: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] وفي الثالثة: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [البقرة: 0 1] أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزاً لهم إلى الإصغاء وتوجيهاً لقلوبهم نحو التلقي وجبراً لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض، و( يا) حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد، وقيل: لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية وهو مع المنادى المنصوب لفظاً أو تقديراً به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو (لا، ونعم) و( أي) لها معان شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه أل لأن (يا) لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذاً لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذ من نحو: فلا والله لا يلفي لما بي *** ولا للما بهم أبداً دواء وأعطيت حكم المنادى وجعل المقصود بالنداء وصفاً لها والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافاً للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما التزم ذلك إشعاراً بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعاً غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصوداً في حد ذاته ككونه مفسراً لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين إلا النذر كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله، و( ها) التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في (أياً) الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوباً لمناسبة التخفيف للمنادى وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم موصولة، وندرة وقوعها موصوفة، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم، فحرف النداء على هذا يكون داخلاً على مبنى على الضم ولم يغيره، وإن كان مضارعاً للمضاف، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال: إنه لا جواب له وهو أن ما ادعوا كونه تابعاً معرف بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل بقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظاً ومنصوب محلاً فلا وجه لرفعه، وأقول: إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصوداً بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضاً لأنه مرفوع رفعاً صحيحاً، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في {أَيّا مَّا تَدْعُواْ} [الإسراء: 0 11] وإن لم يستعمل هنا مضافاً أصلاً وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيراً ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإيهام والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين. هذا ما ذهب إليه الجمهور، وقطع الأخفش لضعف نظره بأن (أياً) الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوباً لمناسبة التخفيف للمنادى وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم موصولة، وندرة وقوعها موصوفة، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم، فحرف النداء على هذا يكون داخلاً على مبنى على الضم ولم يغيره، وإن كان مضارعاً للمضاف، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال: إنه لا جواب له وهو أن ما ادعوا كونه تابعاً معرف بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل بقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظاً ومنصوب محلاً فلا وجه لرفعه، وأقول: إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصوداً بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضاً لأنه مرفوع رفعاً صحيحاً، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في (يا) زيد الظريف. وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت، وأجاب ابن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد لها باطرادها منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو خرج زيد لأنها حدثت بعامل لفظي ولما اطردت الضمة في نحو يا زيد يا عمرو وكذلك اطردت في نحو يا رجل يا غلام إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدىء به مجرداً عن عامل لفظي وجيء له بخبر كعمرو ومنطلق، وزيد ذاهب إلى غير ذلك فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت الأسماء المعربة الضمة الحادثة عن الابتداء شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو (يا زيد الطويل) وجمع بينهما أيضاً أن الإطراد معنى كما أن الإبتداء كذلك، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى إنهم قد حملوا أشياء على نقائضها، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ {الحمد لله} [الفاتحة: 2] بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو يا زيد بن عمرو في قول من فتح الدال من زيد انتهى ملخصاً، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في «أماليه» وأكثر في الحط على ابن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة، ولولا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن، ولهذا قال بعض المحققين: إن الحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادى ككسر الميم من غلامي وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال. بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور وهو المشهور أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال: إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب، ثم قال: والصحيح أنها دخلت بدلاً من ( يا)، و( أي) وإن كان منادى إلا أن نداءه لفظي، والمنادى على الحقيقة هو المقرون بأل ولما قصدوا تأكيد التنبيه وقدروا تكرير حرف النداء كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانياً (ها) وثالثاً (أل) وتعقبه ابن الشجري قائلاً: إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلاً ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا يا أيها الرجل معناه يا رجل، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث، ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وانطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين إثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في (أنا خرجت) معرفة إجماعاً ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث، وأيضاً ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلاً: (يا أي يايا رجل) وأنهم عوضوا من (يا) الثانية (ها) ومن الثالثة الألف واللام، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم. والناس: اسم جمع على ما حققه جمع، والجموع وأسماؤها المحلاة بأل للعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء والأصل فيه الاتصال هو يقتضي الدخول يقيناً ولا يتصور إلا بالعموم، ونحو ضربت زيداً إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشره الأخير عام تأويلاً، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذا لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيساً والاتفاق على خلافه، وشيوع استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث السقيفة وهم أئمة الهدى. ثم هذا الخطاب في نحو {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا: وليس عاماً لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي، والأول: هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع، وأما بمجرد الصيغة فلا، وقالت الحنابلة: بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} قال العضد: وإنكاره مكابرة وبأنه امتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً به لمن بعدهم لم يكن مرسلاً إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك، وهو إجماع على العموم لهم. وأجيب: أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاهاً وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم، وأما عن الثاني: فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد. وفي «شرح العلامة» الثاني «للشرح العضدي» أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد. وقال بعض أجلة المحققين: إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب، وقول العضد: إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا، ومثله فصيح شائع وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى. وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر، وقد قيل: إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا هذا وعلى كل حال ما روى عن ابن مسعود وعلقمة من أن كل شيء نزل فيه {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} مكي و{ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} مدني إن صح ولم يؤول لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضاً داخلون فيه ومأمورون بأداء العبادة كالاعتقاد، والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات، ولو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعاً مردود بأن الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب استقلالاً أيضاً، والعجب كيف خفي على مشايخ سمرقند؟ا وهذا ما ذهب إليه العراقيون والشافعية، ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصلت: 6، 7] وقوله سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} [المدثر: 2 4 44] وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الاعتقاد فقط، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم ينص ظاهراً على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها، ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للاتفاق على أنهم ما داموا كفاراً يمتنع منه الإقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم، وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم، وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل، وهذا في غير العقوبات والمعاملات، أما هي فمتفق على خطابهم بها، والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث باعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات فاعبدوا يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة، وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلاً في المفهوم وضعاً فلا محذور في شيء أصلاً خلافاً لمن توهمه فتكلف في دفعه وذكر سبحانه الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلاً سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه. {الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} الموصول صفة مادحة للرب، وفيها أيضاً تعليل العبادة أو الربوبية على ما قل، فإن كان الخطاب في {رَبُّكُمْ} شاملاً للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا إن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضاً بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه، وعلى الثاني قد يتصف به غير ومنه {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 4 1] {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين} [المائدة: 0 11] وقول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفري ومن العجب أن أبا عبد الله البصري أستاذ القاضي عبد الجبار قال: إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل: {هُوَ الله الخالق البارىء} [الحشر: 4 2] وبقول الله تعالى أقول، والموصول الثاني عطف على المنصوب في {خَلَقَكُمْ} و( قبل) ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد بالذين قبلهم من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى، وقدم سبحانه التنبي على خلقهم وإن كان متأخراً بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولاً على أنفسهم آكد وأهم، وأتى بالخلق صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ} [الزخرف: 7 8] أو {مِنْ خلاق السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر: 8 3] وانفهام ذلك من الوصف بناء على ما قالوا الإخبار بعد العلم بها أوصاف والأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر، وقرأ ابن السميقع (وخلق من قبلكم) وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والذين من قبلكم بفتح الميم، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل (من) تأكيداً للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله: من النفر اللائي الذين إذا هم *** تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم (فمن) حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم *** وتخريج البيت على نحو هذا، وقيل: {مِنْ} زائدة، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء؛ والكسائي زيادة {مِنْ} الموصولة، و( جعل) من ذلك: وكفى بنا فضلاً على من غيرنا *** حب النبي محمد إيانا وبعضهم استشكل القراءة المشهورة أيضاً بأن الذين أعيان و{مِن قَبْلِكُمْ} ناقص ليس في الإخبار به عنها فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويل أن ظرف الزمان إذا وصف لفظاً أو تقديراً مع القرينة صح الإخبار والوصل به تقول: نحن في يوم طيب، و( ما) هنا في تقدير: والذين كانوا من زمان قبل زمانكم، وقدر أبو البقاء: والذين خلقهم من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (لعل) في المشهور موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن، والظاهر التقابل فتكون مشتركة، وذكر الرضي أنها للترجي وهو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق، والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين أنها لإنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول، إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقاً وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم وهو الشائع لأن معاني الإنشاآت قائمة به. وإمّا من جهة المخاطب تنزيلاً له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما، ومنه {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذاناً بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلاً. ففي الآية الكريمة إن جعلت الجملة حالاً من مفعول {خَلَقَكُمْ} وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة امتنع حمل لعل على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فكيف يتصور الرجاء منهم؟ا ولا يجوز جعلها حالاً مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة لعل الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه صورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة لعل أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} [هود: 2 1] لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث أن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقياً وليس بالبعيد، وإن جعلت حالاً من فاعل {خَلَقَكُمْ} امتنعت الحقيقة أيضاً وتعينت بعض الوجوه، وإن جعلت حالاً من ضمير {اعبدوا} جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفاً إلى المخاطبين أي راجين التقوى والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوى والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغى والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم أعني الثواب لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضياً إليه ووجه الدفع ظاهر، وما قاله المولى التفتازاني من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها يدفعه أن في الترجي تنبيهاً على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في عبادته ويكون ذا خوف ورجاء، نعم قالوا: الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر، فإن قلنا: إنه أعم من الوجوب فلا إشكال، وإن قلنا: إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها، فإن {الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض} [البقرة: 22] موصول بربكم صفة له يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي، وإن جعل {الذى جَعَلَ} مبتدأ خبره {لا تجعلوا} [البقرة: 22] كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته، ثم لا يبعد أن يقال: إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن (لعل) تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره واستشهدوا بقوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا *** نكف ووثقتم لنا كل موثق أو لأنها تجيء للأطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء، ثم يتجوز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه إطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعواعليل أفعاله سبحان بالأغراض لئلا يلزم استكماله عز شأنه بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظياً لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهراً مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاماً كذا قيل، وفي القلب منه شيء، وسبب حذف مفعول {تَتَّقُونَ} مما لا يخفى، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره الشرك، والضحاك النار، وأظنك لا تقدر شيئاً، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم ووصفه بما وصفه، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثواباً حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره، واستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه.
|